في الأوتـوبيـس.. (قصة قصيرة)

صعدت الاوتوبيس في قيظ شهور الصيف, والتي لم يخفف تاثيرها سوي مغيب الشمس واقتراب ليل المساء بخطوات مترددة, صعدت فيما لا يوصف بالقوة الجسدية

– التي تفتقر لها بقوامها النحيف – بينما تشبث يدها بباب الاوتوبيس كان مفعما بالارادة.
 ارادة لم تكسرها قسوة الحياة, ولا التعليم الغير متميز في احدي الجامعات الحكومية من كلية يحصي خريجيها في العام الواحد بوحدة الالاف.
 ليست قبيحة هي, لا شيء فيها ينم عن قبح صريح, ولا حتي بروز عظام وجنتها او بشرتها السمراء, لكنك ستفشل في البحث عنها ان بحثت عن صورتها او اوصافها في معجم يعرف ما الانثي من حيث الجمال, مما جعل فرصها في الزواج يوصف بالوصف الذي ينطبق علي كل شبر من صحاري حياتها.
عادية جدا, كات تلك العبارة لعنتها وعذابها المقيم, ان ادت عملا ما وطلب راي احد فيه, كانت تسمعها, ان اشترت ملابسها في رحلة الشتاء او الصيف حسب تقاليد طبقتها الاجتماعية الغير متوسطة, كانت تسمعها, حتي ان صنعت كعكا او حلوي لم تسمع من صديقاتها او حتي عائلتها سوي تلك اللعنة التي صهرت في احرف خصيصا لتعذبها ما عاشت من حياة, كانت مثالا غير عادي لان تكون كل ماهو عادي في كيان واحد, ولان الناس لا يلحظون سوي التميز والاختلاف اما سلبا او ايجابا, ولان ذاك الذي يدعي بالتميز كان ابعد عنها بعد المشرق عن المغرب, بل ان شئت بعد فرحة الميلاد عن حزن الموت, لهذا او لذاك ولانها عادية بطريقة غير مسبوقة, كانت غير مرئية تماما, ولربما هي الانسان الوحيد علي وجه البسيطة, الذي لم يحتاج يوما لافتراضية اسطورة (طاقية الاخفاء).
عادية جدا, كانت حياتها, وصفاتها - ما ظهر منها وما بطن - ولولا ان ذاك التعبير لا يصير اسما, لكان ذاك اسمها بكل تاكيد.
ولانها عادية جدا لم تلفت نظر احد من ركاب الاوتوبيس وهي تدخل عليهم عالمهم, الاغرب انها لم تعد تستشعر هذا, فها هو الاوتوبيس قد بدا في التحرك وهي لم تستقر في مكان بعد, رغم ما يعده مظهر الركاب او الواقفون بان هناك مجالا لم يزل متاحا لها, وقدرا من الفراغ يمكنها مشاركتهم فيه, الا انه لم يكن بالامر الهين, فلا يزال عليها البحث عن منطقة تعطيها قدرا معقولا من الخصوصية المفقودة تماما بعقد غير مكتوب لكل من تسول له نفسه الاقدام علي اعتلاء درجات الاوتوبيس.
اخيرا انتبذت لنفسها ركنا قصيا – ان كان في الممر مكانا يسمي بركن – من الاوتوبيس وشرعت - بفعل الاعتياد - في إجترار احداث اليوم مما سبق والترتيب لما هو متبق منه.
تتابع الطريق تارة ان سمح لها كتف راكب جوار احدي النوافذ, او تعتلي عيناها تلك النظرة المتعلقة بصميم اللامكان, حتي لا تلتقي عيناها بعيني احد من الركاب حسبما هو مسجل في لا شعورها من مرات عديدة ارتادت الاوتوبيس فيها بعد ان نبهتها لذلك امها في اول مرة كان عليها ارتياده.
محطة جديدة يمر عليها الاوتوبيس في مساره جعلته يتجاوز مرحلة الابطاء الي مرحلة التوقف النسبي, ومعها يبدا بعض الركاب يفارقون المكان بلا رجعة – علي الاقل لهذا اليوم – بينما شرع اخرون في استكمال الطريق معهم, بما يعطيه هذا من تغيير يبعث الامل او حتي الحنق والضيق, من ازدحام الفراغ بعدد لا طاقة له به, فنسبة الزيادة تجاوز النقصان بدرجة كبيرة,ورغم ذلك تتجدد المعجزة اليومية بل الانية في الاوتوبيس بما يشبه الخلق لموطن لهم حتي لو لم يكن ذلك من المنطق في شيء.
ويتدني سقف احلامها – علي دنوه – فيما يدعي بالخصوصية, فعليها الان ان تنثني علي نفسها حتي تمرر تلك السيدة البدينة ومعها من ابنائها الماشي و المحمول, وخلفها سرب من المراهقين يفصلهم عنها شابين رقيقا الحال وان لم يعيبهما هندام, هؤلاء كلهم قد صعدوا مع اخوان لهم قد استقروا في خلفية الاوتوبيس, لتدب الحياة ثانية في هدير المحركات لتعلن عن ضرورة استكمال الرحلة, رغم عدد لا باس به من الرجال الذين ابوا الا ان يكونوا من الركاب حتي ولو استقروا علي درجات الاوتوبيس, بل ومنهم من اوعز اليه شيطانه ان هناك مكان ما لم يزل متاحا في الداخل, وعليه ان يقاتل في سبيله.
لا تزال حركة من عدم الاستقرار معلنة في فراغ الاوتوبيس حتي مع بداية مغادرته فضاء المحطة, يعزي سببها الي شرذمة من الفدائيين الذين قرروا الا رجعة لاهليهم بغير مكان مستحق لهم في الاوتوبيس ولو باستخدام القوة البدنية, هؤلاء الذين اقترب اثنان منهما في مجال خصوصيتها الذي اوشك علي التلاشي بما يسبباه من تضغط في خضم يم البشر ذاك.
وما ان هدأت موجات التضاغط بين الركاب حتي تصعد القتال الي مرحلة جديدة, تشبه الزحف البطيء للقارات, بطيء غير ملحوظ, لكن لا يمكنك نكران اثره, ومع ارتجاجات الاوتوبيس والركاب بين تهدئة وتسارع, فاز احدهما بمكان دان منها, لتصير خصوصيتها خرافة او اسطورة من اساطير الاولين, تسمع عنها وتتعجب ان كان مثلها موجودا رغم عدم تصديقك لها, فينتعش خيالك بحثا في ملذات لو كان لك تلك المزية الخارقة للمألوف.
انكمشت – بالرغم عنها – في مكانها اكثر, حتي تتجنب التلامس بشكل مستمر مع من ورائها من الركاب, وقد ارتضت بذلك تعريفا جديدا للخصوصية, مع انكار ما يحدث لها من تصادم مشترك مع احد الركاب بين الحين والاخر الذي تسببه ارتجاجات الاوتوبيس,  لتستكمل رحلاتها المكوكية بين الإجترار للذكريات, ومتابعة احدي النوافذ, والنظر للامكان.
غير ان تلك الرحلة قد حرمت منها هي الاخري حين لاحظت في احدي محطات رحلتها ذاك الشاب رقيق الحال الواقف بجوار رفيقه يسترق النظر اليها خجلا بين الفنية والفنية, كان جهازها للقيادة الالية لامور حياتها وخصوصا في الاوتوبيس لم يزل يعمل وبكفاءة جعلتها تنتقل انيا الي مرحلة النظر بعيدا الي اللا مكان كالعادة, بل انها استغرقت بضع ثوان حتي تدرك الامر وتعيه.
 شاب ينظر لها ويسترق النظر اليها, واليها هي بالذات.
شاب نبت في صحاري حياتها كنبتة صبار وحيدة في فيافي عمرها الذي قارب الثلاثين بلا زواج, او حتي شروع في زواج.
لتجد نفسها تسترق النظر بدورها للتاكد من صحة ذلك الامر الجلل.
انه حذر, لا يطيل النظر حتي لا ينكشف امره, كل ما عليها ان تنتظر دورة النظر الخاصة به حتي تختلس نظرة اليه لتقطع شكها بيقين, المسالة مسالة وقت اذن, ورغم انه وقت لا يقدر الا بثوان معدودات ,الا ان تلك الثواني كانت دهور عليها تمر, فلاول مرة يلحظها احد ما, احد ما يتحول من مجرد افتراضية تسمعها من امها ومن اقرانها اذا دارت احاديث الزواج والنصيب المقسوم, احد ما يخرج من كونه خيالا وقانونا من قوانين الاحتمالات, ليتجسد في صورة شاب يافع من لحم ودم, بل ومن شعر صفف في عناية, وهندام لا يخفي رقة احواله المادية, بالطبع هي تسترجع قصص تلك النساء العظميات اللاتي وقفن خلف رجالهن, وكانوا معهم خير معين علي مشقات الحياة, فهي لن تكون اقل من تلك النساء عظمة وتثبيتا لاقدام ازواجهن, فطالما استطعن هن فعل ذلك, فلا يوجد ما يبرر عدم مقدرتها علي الاتيان بالمثل, ما بالك بالتجويد, لا وبشكل قاطع, لن تقف المادة بينها وبين شاب بشعر مصفف وهندام متواضع ولحم ودم, خرج لتوه من قائمة تحمل اسم احد ما, لتدب فيه الروح ويصير كائنا حيا يعم الدنيا ضجيج وجوده من نوعية الذكور.
ويارباه, حدثت المعجزة, ها هما عيناه تتجه اليها – علي حين غرة – وقد تحولتا الي مصدر مشع - ذو نظرة ثابتة - لمعان الرجولة, تلك النظرة التي اذابت ما غلف قلبها من صدا نتيجة اهمال متراكم, وارتعدت لها انوثتها لتنتفض معلنة عن وجودها تحت انقاض التجاهل المعتاد.
انوثة ظلت نبتتها  في معزل عن الماء والهواء, بل وضياء الاعجاب, ففيم يفيد الجمال بلا نظرة اعجاب, قطرة من الندي علي ازهار انوثتها تتفتح لها من جديد بعد ان اقتربت في تكوينها ان تصير شبحا لا دليلا ماديا علي وجوده.
نظرة لم تدم لكسر من الثانية الا انها عاشت فيها توقف الزمن, وشحذت كل مشاعرها وحواسها لتنهل منها ما تنهل, فلربما لن تحظي بمثيلتها مجددا في وقت يسير.
نظرة ودت لو تبادلها احتضانا كاحتضانه لها فيها والذي تشعر بها علي بعدهما, احتضانا زاد عن مرحلة الشعور المعنوي, ليتجسد هو الاخر باحاسيس مادية, لا شائبة فيها, لولا ضيق التنفس الذي لم تقرر بعد اهو من حر مشاعرها امن ضيق صدرها بتلامس رجل خلفها طغي علي حدود المصادفة والبراءة.
تختنق الكلمات في جوفها وهي تلتفت اليه في بطيء من دهشتها وعدم تصديقها لما وصل اليه امره من جرأة معها, وتضطرب دمعة في عينها ناظرة اليه وهو متظاهر بالتجاهل لها, تجاهل لم ينف او يوقفه عما يحاول الوصول اليه, خلسة بخسة, وبلا ذرة خجل, وثبات علي موقفه من قهرها عنوة, وسرقة لانوثتها الوليدة بلا ادني وازع من ضمير.
ليعلو صوت السائق – وقد راقب الموقف من مرآته – وقد هدر صوته مطالبا الرجل بضرورة تغيير محله ليقف بين من مثله من الرجال, فلا مكان له بين النساء في اوتوبيس هو قائد له.
في حين نادي عليها رجل جاوز عقده السادس - علي الارجح - لتجلس بجوار زوجته المسنة وقد بدأ خطابه لها بمناداته لها كابنة, فتتحرك هي اليه وقد استقر امرهما – بعد مداولات – علي ان تكمل المسيرة وقوفا بجواره اشفاقا علي سنه الطاعنة.
وبدا عهد جديد من رحلتها في الاوتوبيس ...
كم هي عجيبة تلك الحياة... !! – دار هذا الخاطر برأسها – نولد في اماكن وننشأ اطفالا في اماكن ...لنعيش شبابا او شيبا في اماكن اخري .....
الا هي ...فطفولتها وصباها حتي مراهقتها وسنين شبابها الاخذ في حزم اغراضه استعدادا للرحيل ...لم تفارق مكانها ومحل ميلادها ...
صارحت امها ذات مرة بذلك الخاطر ....بعد لقائها الاول بزميلة لها كانت قد قدمت من احدي البلدان الاوروبية ...فتسائلت ...لماذا لا يكون لها الحق في تغيير مكانها ....لربما يتغير حظها
اين نصيبها المشروع من الترحال ...من تغيير محل الاقامة
وقبل ان تستكمل اسراب الاسئلة ...قاطعتها والدتها بقولها ...انها تستطيع تغيير محل اقامتها ...بل وتخير المحل الجديد ان اتاها النصيب ...فلربما يكن نصيبها ذا محل اقامة افضل او علي الاقل ...جديد
ومن يومها ...ظل تغيير المحل والمكان ...هو فأل جيد ....او علي حد قول امها ...بشرة خير فهي متلازمة لوصول النصيب ...والبدء في الحياة ...التي ظلت طوال حياتها ...تنتظر لتحياها ...
كذلك مكانها الجديد في الاوتوبيس ....لربما يكون هو - في قربها مكانا من مقدمة الاوتوبيس حيث الشاب الذي ولد من قائمة شخص ما - فأل جيد وبشرة خير ... وربما وعدا .... بالوصول للنصيب.....
مكانها الجديد الذي اتاح لها فرجة لمراقبة معجزة وخيال لم تطأ ارضه امن قبل ....بجوار العجوزين ....اذ لفت نظرها سؤال الرجل العجوز لزوجته المتكرر ان كانت مستريحة علي مقعدها ...ومحاولته الدائبة ...لافساح مجالا لها اكثر علي وهنه وعلي احتياجه هو لفرجة يرتاح بها في مجلسه ....وتلك النظرة....تلك النظرة التي يختلسها بين الحين والاخر اليها ....فتدير عيناها اليه في التو ...وكانه اتصال دوري بينهما للاطمئنان ان كل شيء علي مايرام ....بل يتجاوز ذلك للاطمئنان ان حبهما لايزال دفيء ....بل وان شئت ان كل منهما ... لايزال علي قيد الحياة  ليس تمسكا بالحياة نفسها ....قدر ماهو التمسك بالحياة في صحبة الاخر
حتي لاح للزوجة العجوز من نافذة الاوتوبيس امرا ما ...جعلها تسعي اليه شاردة بعينيها...بينما سعت بيدها الي طرف احد اكمام قميص العجوز زوجها ...تشدها في رفق طلبا لانتباهه ...
وفي حنان ولهفة ترك الرجل العجوز جريدته وهم اليها لينظر معها من نافذة الاوتوبيس باحثا في البداية عما لفت نظرها بالخارج ...حتي استقرت عيناه علي رجل مجلبب يسعي باكياس صغيرة من حلوي ( غزل البنات ) ...لاحظت فتاتنا تلك الابتسامة التي اعتلت وجهها العجوز ...وكافحت بين تجاعيد وجهها لتنير عيناها بلمعة التقت مع مثيلتها الصادرة من عينا الرجل العجوز ....والتي صاحبها اتساع شفتيه عن ابتسامة حانية مفعمة بعواطف لم تختبرها فتاتنا ابدا ...التي طار خيالها في محاولة لتفسير تلك الابتسامة لبائع ( غزل البنات ) عابرة عدد من ذكريات العجوزين في زمان سابق ...مع ( غزل البنات ),وخصوصا مع صعود المجلبب للاوتوبيس مروجا لبضاعته ....وقد سارع الرجل العجوز بطلب البائع شاريا منه ومناولا زوجته...التي غمرتها سعادة كابنة ستة عشر ربيعا ...
 تسائلت الفتاة في نفسها ...كم مرة خطب ودها- بعد خصام - في شبابهما ببعض من ( غزل البنات ) ....؟
كم مرة تأبطت ذراعه في دلال انثوي تطلب حلواهم المفضلة ...؟
بل هل يمكن ان يكون تعارفهما كان بسب هذا ال ( غزل البنات ) ...؟
واخيرا ...هل سيأتي يوما بذاك الشاب رقيق الحال ,وقد حمل اليها بعضا من ( غزل البنات ) بتلك النظرة نفسها ...وتلك المشاعر نفسها ...
تلك المشاعر التي تقاوم الزمن ....حتي جعلت من عجوزين عاشقين لتلك الدرجة ....
ظلت تنقل بصرها بينهما برهة من الزمن ....غير منقطعة عن عادتها في دورات نظرها مع الشاب رقيق الحال ... حتي حانت محطة اخري ينزل فيها العجوزان ....
تابعتهم بنظرها وهي تاخذ محل احدهما في المقعد ,بينما اتخذا سبيلهما لخارج الاوتوبيس مهلا...
كانت المرأة العجوز تستند علي احدي يداه – رغم انها تتقدمه – وهو لم يدخر جهدا ليميل اليها بجسده ,وكأنه يطمئنها انه لا يزال بجانبها ...وكذلك سيظل ...
واخيرا شرع الاوتوبيس من جديد لاستكمال رحلته ....بعد ان غادره العجوزان حبوا في خطا وئيده ,في ولادة جديدة ....من مخاض تدافع زحام الاوتوبيس ....الي مخاض دنيا البشر....دنيا بعضها ارحام تدفع ...في ولادة تلو ولادة....أو قبور تبلع ....بموت بعد موت...ولكن كلاً بميعاد...
طالت نظراتها اليهم من النافذة المجاورة لها ...حتي غابا في تلاطم احدي موجات يم الناس الزاخر ....فقط لتستعيد وضعيتها علي الية النظر الي صميم اللا فراغ ودورات النظر التي تختلس فيها سرا النظر الي الفتي رقيق الحال ....لكن هذه المرة ....كانت نظراتها بمثابة اجازة لتقدمه والحصول علي المقعد الشاغر علي يسارها ...
وبالفعل كاد الفتي الذي تحرك في خطوات متخفية في اتجاه المقعد من الوصول الي المقعد علي يسارها  " ككوشة " مبدئية ....لولا ان تحرك احد اطفال السيدة الممتلئة ليشغل بسرعة المقعد الفارغ في تسابق طفولي سخيف ...
والذي ما كان حتي اجبرته امه علي التنازل عن المقعد لها لتجلس هي عليه...بينما انزاح هو كثيرا الي فراغ ما بين المقعدين – رغم انتفاء وجود ذلك الفراغ من الاصل – لكن الام السمينة قررت هي واطفالها أن لابد وهناك فراغ ما بين الكرسيين حتي تضمن مكانين اضافيين لمزيد من الاولاد الصغار .....
وبذلك صار الفراغ المتاح لفتاتنا لا يسمح بمرور ولو القدر اللازم للتنفس من الهواء ....
لا ...لم تقرر فتاتنا ان تغادر مقعدها إلا بعد ثاني او ثالث انعطاف للاوتوبيس حين تقرر ملائكة "ناكر ونكير" تلك العبث بوجهها وملابسها من باب انها وسيلة الترفيه التي يتميز بها الحاصل علي هذا المقعد وخصوصا لاطفاله ....
وبذلك عادت فتاتنا لحياتها الضالة في اروقة الاوتوبيس تتحاشي الاصطدام بهذا او ذاك ...محاولة من جديد ان تجد لها ركنا قصيا تامن فيه علي نفسها ....وتمارس فيه لعبتي النظرات الي اللاشيء ...ودورات النظر الي فتاها ....
فتاها الذي شغل تفكيرها منذ صعدت علي الاوتوبيس ...
فتاها الذي تخير مكانه بالقرب من الباب الامامي للاوتوبيس ...
فتاها الذي كما نبت من كبد الفراغ ....ضاع في الفراغ ....
تلاشي ....
وكليا ....
لا اثر له ....
ولا حتي لرفيقه ....
بدأت تحرك رأسها بحثا عنه ....لربما اختبأ وراء راس احدهم ...او ظل الاخر ....
لقد كان هنا منذ ثوان ...
اتُراها عميت عنه ....ام انه لا وجود له من الاساس ....؟!!
هل من المعقول ان اختلقته بخيالها ....؟!!
كيف ....؟!!
الرجل الوحيد الذي التفت لوجودها منذ ولدتها امها ....شبح ...!!
وليد خيال ينذر بانها صارت للجنون أقرب ....!!
اتراه هو الوحيد كذلك ...ام ان هذين العجوزين ايضا كانا شبحين سكنا خيالها في غفلة منها ...
ثارت نفسها وبدأت تتحرك من مستقرها ومستودعها ...مجاوزة تلافيف البشر المتشابكة في طريقها ....حاولت البحث عنه او عن رفيقه ...او عن اي اثر لوجودهما ...
قاطع افكارها سؤال من امرأة تجاورها ....عما اذا كانت تبحث عن شيء ما ...
تلعثمت ...تريد ان تسالها عن ضالتها ...لكن يمنعها حياؤها ....
وتقتلها حيرتها وشكها في قواها العقلية ....بل وعدم استسلامها لفكرة ألا رجل قد ينظر اليها ...إلا لو كان من فصيلة الاشباح التي تسكن خيالها ....
والتي كانت الغلبة لها في النهاية لتنتصر علي حمرة الخجل الذي لن يلاحظه احد ....ان لم يكن هناك من يلاحظها بدونه ...
فاستجمعت قواها وشجاعتها... واخبرت المرأة انه ثمة شاب كان يقف لدي الباب ...اعطته ثمن التذكرة ليناولها الي السائق ...وهي بدورها تنتظر الباقي ....
وفي ريبة لم تخلو من صوت المرأة تخبرها بأن الفتي اخذ صديقه ونزلا علي عجل من الاوتوبيس ....
وهذه المرة ...لاحظت ان سائق الاوتوبيس ينظر اليها في مرآته ...وقد ارتسمت في عينيه نظرة بعنوان ...ها هي "واحدة اخري" ...وكلمات كثيرة – لم تحدد مصدرها ..اهي همهمات السائق ام انها فقط نظرات عيناه – تصف تلك "الواحدة الاخري" لم تميز منهم الا كلمة (من اياهم)...
فالسائق يعرف انها قد نقدته ثمن التذكرة منذ ركبت الاوتوبيس ...وانه بنفسه قد اعطاها التذكرة والباقي من ثمنها ....بل وقبل ان يدلف هذا الشاب وصديقه بمحطتين علي الاقل ...
كانت تشعر بالاحراج الشديد ....والخجل يغزو بحمرته وجهها ...
لكنها اطمأنت ان فتاها لم يكن حلما ....لم يكن حلما ...
فليذهب السائق ومرآته الي الجحيم ....المهم ان فتاها كان حقيقة ....
كالعجوزين العاشقين ....هما ايضا حقيقة ....
حقيقة ...حقيقة ...
وتلك الحقيقة كما حدثت اليوم ....ولو مصادفة ....
فستحدث غدا ...ولو مصادفة ايضا ...
اهذا ما تسميه امها "النصيب والقسمة"....
هل معني "النصيب والقسمة"  هي تلك الحقائق القابلة للتكرار ولو مصادفة ...لتعطي لكل فتاة ...فتاها ...
ياله من معني وفهم عميق ....ذاك الذي تدركه امها وتحادثها عنه طيلة سنوات عمرها ...
كادت تشرع في تعدد اراء امها والمواقف الكثيرة التي مرت بها وثبت ان كلام امها دوما كان الاصح ...لولا ان قطع حبل افكارها صرخة من السيدة البدينة ....تعلن في هلع ان كيس نقودها قد سرق ....
ليتلوها رجل اخذ في تحسس جيوبه ليعلن ان حافظه نقوده ايضا شاركت كيس النقود الاختفاء ...وفي توالي كضربات القدر ....ظهرت حوالي اربع او خمس استغاثات من اشخاص اخرين ... قريبين من الباب ...
ليعلن احدهم في صوت عال ...ان ولابد فتاها وقد لقب "بابن الحرام" هو وزميله السارقون...
فقد نزلا في عجل اثناء انعطاف الاوتوبيس في تهدئة...ولم يطلبا حتي التوقف لبرهة ...
ونزلت عليها الكلمات كالواح ثلج منهمر ....فاغرة فاها ....غير مصدقة ...
حتي انها من هول الامر كادت تندفع في محاولة للدفاع عنه ....ولكن ذابت الكلمات بمرارة علي شفاها مع نظرة لا تخلو من اتهام ارسلت اليها عبر المرآة من سائق الاوتوبيس ...
الذي كبح سرعة الاوتوبيس فجأة فيما يدعي "بالفرملة"- التي ولدت موجة تصادم - ليبحث كل واحد من "الحضرات" كما ناداهم عن ماله ويتأكد مما كان معه ومن تذكرته ...
ذاك التصادم الذي تعاون مع ضيق صدرها وضيق التنفس لكل الركاب ليجعلها علي شفا حفرة البكاء ....
بكاء داخلي بلا دموع ظاهرة ....تدمع فيه دما ومهانة ....يختلط بطعم الذكريات ...
ذكريات العجوزان العاشقان ...وذكريات نظراته المتلصصة ...والتي لم تكن اليها كما اعتقدت ...بل هي تلصصا بين ضحاياهم ممن تم انتشال محافظهم او اكياس نقودهم ....
ذكريات احلامها بانها ستقف الي جانبه وستساعده ....في حياة زوجية ستكون فيه مثالا علي الفتاة الغير مادية ....
"وكوشة" مبدئية كانت ستجمع بينهما لحظات ....تحرك الفتي لا اليها ...بل ليستكمل احداث جرائمه ,قبل ان يهم بالقفز من باب الاوتوبيس ....
صاعقة كهربية مرت بجسدها مع كل صفعة ....تصفعها لنفسها بذكرياتها ....اصابتها بحالة من الاجهاد المختلط باللامبالاة الذائبتان في طعوم المرارة الحزينة ....
لا مبالاة جعلتها لا تستطع ان تراجع موقف حقيبة يدها لتتأكد من كيس نقودها ....
لا مبالاة جعلتها لا تابه لسائق الاوتوبيس وهو يناولها احدي نظراته المتشككة من حين لاخر عبر مرآته ....
لا مبالاة ....جعلتها بصعوبة تستشعر اخيرا سبب تلك النظرات من سائق الاوتوبيس ...
فخلفها قد تصدر المكان رجل يتحرش بجسدها في اصرار واضح للجميع عداها هي ....
يضغط بكيانه القاهر لانوثتها ...علي ما تبقي لها من مشاعر واحاسيس ....
يذبحها علي مرأي ومسمع من الناس ....
ولا احد يحاول ان ينقذها من براثنه ....
هي نفسها تحاول ان تفلت منه بشق الانفس ....لكن قوته واصراره مقارنة بوهنها وضيق صدرها ....كانا كاسحين ....
حاولت ان تنظر في استجداء لاي ممن يحيطون بها ...لعلها تجد فيهم من يدفع عنها هذا البلاء ....لكن بلا مجيب ...
نظرت في عيون كل من يحيطون بها ...علها تجد في عين احدهم اي شفيع ...
اي قشة تنقذها من الغرق في يم وحدتها وضعفها وهوانها علي الناس ...
ولا مجيب ....
حتي السائق الذي كان يرميها باسهم اللوم او الاتهام بين الفنية والفنية عبر مرآته ....قد اشاح بوجهه عنها ....وقرر ان يكتفي باستكمال مسار الاوتوبيس الي وجهته ...
بحثت وبحثت ....ولا مجيب ....
بحث وبحثت ....ولا حبيب ....
بحثت وبحثت ....حتي كلت نفسا ...وزهقت روحا...
في رحلة البحث .....عن القسمة والنصيب ...
فطأطأت راسها الي الارض في استسلام ....
...في الاوتوبيس ....

(تمت)

هناك 4 تعليقات:

  1. انا بكرة قرائه كل ماهو طوووووووووووووووويل :)
    بس حقيقى استمتعت جدااااااااااا واتوجعت جدااااااااااا على المصريه هى تلك الفتاه التى تمثل الطبقه الغالبة فى مجتمع اصبح نصف كفيف والنصف الاخر يضحى بعيونه وروحه حتى يرا الاخر ضوء نقى نظيف

    تحياتى جميل

    ردحذف
  2. طويلة بس فيها فكرة ..

    استمتعت بالقراءة ..

    وان شاء الله من المتابعين لكل جديد .

    ردحذف
  3. richardcatheart21
    اعتذر عن الاطالة ...لكنها كانت ضرورية لدي ....
    واشكر حضرتك جدا علي رأيك الذي يعد عملا ادبيا في حد ذاته ....
    واتمني ان آنس بك وبآرائك دائما ....
    اشكرك ...وتحياتي

    ردحذف
  4. وجع البنفسج ...
    اعتذر مرة اخري عن الاطالة ....لكن كان مهم لدي الا امر علي بعض مشاعر البطلة والحياة في الاتوبيس الا بالتصوير البطيء ....
    وكأنه اقل اعتذار اقدمه لتلك الفتاة ... ضرورة ان تسجل معاناتها لحظة بلحظة ....
    وتشرفت بمرور حضرتك جدا ....كما آمل الا تكون زيارة يعقبها انقطاع ...
    تحياتي وتقديري ...

    ردحذف