سجــدة ..(قصة قصيرة)

سجـــــــــــدة ...


سجدة ...
سجدة في مسجد لطفل صغير....
بكل خشوع وتضرع...
لم يقاطعها سوي اناته من اثر بكائه في سجوده...
وطعم الدموع المالح في جوفه....
الحار علي وجنتيه....
الله اكبر...
قالها - سرا - وهو يهم بالسجود ...
فتفيض عيناه ...مع اجتراره لطعم الدموع والالم...
فقد تذكر اقرانه وهم يدورون حوله ...
لا عن عزة كما الشمس والكواكب...
بل سخرية واستهزاء...من مظهر حذائه...
وتدور معهم عيناه ...
ينظر لحذائه وقد خرجت اسراره من بين رقعه ...
تنكيلا به وبكرامته....
او ما تبقي له من كرامة ...كانت تنوي ان تنبت في طفولته الغضة الخضراء...
واعتي ايات الذل والمهانة ...تتصارع بداخله...
ايهم اولي بان يحطم البقية الباقية من اشلائه...
ظلت عيناه تدور بدورانهم حوله في فلك المهانة هذا...
يبحث عن مهرب وفكاك ....تارة...
وينظر ببكاء خفي ...لموضع اقدامه ....تارة اخري
ويعيد البحث ...ويعيد الكرة...
ولا مفر...
حتي انه اضحي اسير دائرة مغلقة ...
بين حذائه المرقع المهين ...
ومحاولة هروبه ....المستكينة...
فلا يقدم علي هذا او ذاك...
الله اكبر ...
قالها وهو يرفع وجهه من السجود...
في حين اكملت دموعه انحدارها الي الارض ...
لا بفعل الجاذبية...
قدر ما هي بفعل الاذلال...
الله اكبر ...
وقالها ثانية سرا ...في نفسه...
وهو يعود للسجود مرة اخري...
لتعوده ذكري صفعة ...علي وجنة...احرقها الدمع...
صفعة تلقاها من ابيه ...
حين ساله ان يشريه حذاء جديد...بدلا عن ذاك الذي لا يخفي سرا ولا برتقه...
لتدور الغرفة حوله من اثر الصفعة وهو يهوي علي الارض...
حتي انه لم يدرك في البداية ايهما كان الهاوي...
هو...ام ابيه الذي صفعه...
الله اكبر ...
قالها وهو يرفع وجهه للمرة الاخيرة من السجود...
وقد زادت دموعه علي وجناته ...
وزاد الانين...
انين متهدج يتخلله فقرات من قارئته للتشهد...
لم يهدا روعا ...الا حينما رفع يديه بالدعاء عاليا....
وقد انبري طلبا من الله في دعاءه...
ان ياتيه بحذاء جديد...
لا يسخر بسببه احد منه ابدا...
حذاء يعيش العمر كله ...
يحفظ كرامته الي الابد...
حذاء يحسده عليه اقرانه...
من فرط بهائه ومتانة نعله...
حذاء يجسد فيه احلامه في البقاء مرفوع الراس ...
والامان من غدر الايام....
كفكف بكفه الصغيرة دموعه...
وكانما استنفذ الرمق الاخير من قوته ...
مع نفاذ دعائه...
وانتهاء صلاته...
فاعتدل واقفا ...وقفة ...لا تخلو من انكسار...
مطأطأ الرأس ..توجه الي خزانة الاحذية بالمسجد ...
متثاقل الخطوات ...وكانما كره ان يلتقي بحذائه القديم ذو الرقعة ثانية ...
وكانما كره ان يعود من حلمه الذي دعا بتحقيقه باقصي ما فيه من قوة ورجاء ...
من حذاء الاحلام...
الي حذاء المهانة والانكسار ...
الحذاء ذو الرقعة....
الا انه بوغت تماما....
حينما وجد في خزانة الاحذية...
في نفس المكان الذي ترك فيه حذاؤه...
حذاء جديدا...
حذاء غير ذاك الذي احال حياته لسبة مكتوبه بين عينيه ...
لم يكن كذلك الحذاء الذي راه في دعاؤه...
غير انه والحق لم يكن معيبا...
خالي تماما من اي رقع....
فرحة غمرت قلبه ووجهه...
اختلطت فيها ضحكاته البريئة بدموع فرحة طفولية...
وهو يتحسس الحذاء ...باعينه ....قبل يداه...
كم هو لامع...نظيف ...وجديد...
بل هو ذو تصميم طفولي جذاب...
ناعم الملمس ...لين في طيه ...
يقربه من وجهه ...ليجد ان رائحته تشي بانه ما لبس من قبل ...
حتي انه استشعر ان له ريح طيبة ...
كالمسك او العنبر لو انه يعلم ما ريحهم ..
احتضن الحذاء بقوة ناظرا للسماء ...
وعيناه تفيض دمعا وشكرا ....
فقد ردت كرامته الجريحة اليه ...مع ذاك الحذاء...
فقد عاد الامل اليه ...في ان يكون في حياته ما هو افضل ...
ومعه عاد الامان ...
الامان من انه لن يصير مهانا مرة اخري...
من ان مثل يومه هذا ...
لن يكون في حياته سوي في خانة الماضي...
ولن يكون ابدا غير ماضي...
فاخذ يهتز فرحا وطربا....
حتي انتشي... فرقص وهو يدور حول نفسه ...
ناظرا للسماء محتضنا الحذاء...
وكانه درويشا قد صار اقرب لعالم السماء...منه الي الارض...
وطفق يدور ويدور ...بلا تعب او كلل ...
وكانما يطلب ازدياد سعادته ...بازدياد الدوران...
وفي غمرة دورانه طربا ...وحمدا....
فوجيء بيد خشنة تقبض علي ملابسه...
يصدر من ورائها صوتا يعلن انه تم القبض – اخيرا – علي سارق الاحذية تلا ذلك تجمهر ممن بقي من المصلين بالمسجد ...
مع لطمات وضربات موجهة له من غير سؤال...
حكم ....بلا محاكمة...
واصوات لائمة ....
ودائرة من النظرات المملوءة بالاتهامات ....والاهانات...
وايد كثيرة ...تشابكت لترفعه من الارض ...
وكانما حمل تابينا لكرامته ...
التي ستفارقه و الي الابد ....
وعادت عيناه لتدور في محجريها من جديد ...
لتتفقد وجوه من حوله تارة ...
وتنظر في السماء تارة ....
بنظرة لا يعلوها سوي تساؤل وحيد ....
لماذا ...؟
لماذا يا اهل الارض....ويا اهل السماء؟...
وظل في دائرة النظر بين الناس والسماء فترة ...
وقد علا حينا علي ايديهم...
وتلامس جبهته التراب تحت نعالهم حينا....
وبين علو وهبوط ...
لفت ناظره تجاه نافذة في جدار المسجد ...
وكأنما فتحت بفعل الرياح...
ليصب منها ضوء النهار النور علي جبهته صبا ...
مختلطا بطعم الدموع والدماء ..
من عينيه التي تبكي المه ...
وجبهته التي تشكو خشونة الضربات...
لتقع عينه اخيرا بلافتة اسفل النافذة ...
وضعت فوق صندوق الصدقات...
وقد كتب عليها...
( ما عندكم ينفذ وما عند الله باق )
تاملها قليلا ليتوقف به الزمان برهة....
متاملاً الحذاء الذي وجده و لم يزل في احضانه ...
متخيلا اياه وقد تهالك بعد حين...
وزاد في خياله الي من حوله ...
فلابد ان مالهم من احذية او ملابس أو حتي من وجوه ...
سيتهالك ....كما سيتهالك مثل ذاك الحذاء الجديد....
نعم ...هم ايضا سيتهالك منهم ما يلبسون...
بل انهم هم انفسهم ....سيتهالكون
سيصبحون جميعا...
حذاء قديم....
مليء بالرقع ...التي لا تحفظ سرا ولا كرامة...
لتتخذ عيناه دورة جديدة ...بين الرقع تارة ...
وبين الاية تارة اخري ....
لترتسم علي وجهه برغمه ...
شبح ابتسامة ...
لم تلبث ان تجد طريقها لتصبح ضحكة ...
ضحكة وليدة متقطعة ...تنمو في وجهه...
حتي تصير قهقهة ساخرة...
وقد ارتبطت عيناه التي علاهما نظرة نضج ورضا ...
بالاية متاملا اياها مرة اخري....
وكانه يقراها بعينيه....
( ما عندكم ينفذ وما عند الله باق )
(تمت)

 

هناك تعليقان (2):